وتخصيص (١) التغابن بذلك اليوم للإيذان بأن التغابن في الحقيقة هو التغابن فيما يتعلق بأمور الآخرة لا فيما يتعلق بأمور الدنيا. فـ اللام فيه للعهد الذي يشار به عند عدم المعهود الخارجي إلى الفرد الكامل؛ أي: ذلك يوم التغابن الكامل العظيم الذي لا تغابن فوقه.
والمعنى (٢): وتذكروا يوم يجمع الأولين والآخرين للحساب والجزاء في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر؛ لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين.
والخلاصة: أنه لا غبن أعظم من أن قومًا ينعمون وقومًا يعذبون، وأن قومًا مغبونون في الدنيا أصبحوا في الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.
ثم بيّن هذا التغابن وفصله بقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ بالصدق والإخلاص بحسب نور استعداده ﴿وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾؛ أي: عملًا صالحًا بمقتضى إيمانه، فإن العمل إنما يكون بقدر الإيمان، وهو: أي العمل الصالح - ما يبتغى به وجه الله فرضًا أو نفلًا. ﴿يُكَفِّرْ﴾؛ أي: يغفر الله ويمح ﴿عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ يوم القيامة، فلا يفضحه بها. ﴿وَيُدْخِلْهُ﴾ بفضله وكرمه لا بالإيجاب ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين على حسب درجات أعماله ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت قصورها أو أشجارها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة الجارية في الجنة، حال كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات. حال من الهاء في ﴿يُدْخِلْهُ﴾. وَحَّدَ أولًا حملًا على لفظ ﴿من﴾ ثم جمع حملًا على معناه. ﴿أَبَدًا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، وهو تأكيد للخلود. ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطيبات، فيكون أعلى حالًا من الفوز الكبير؛ لأنه يكون بجلب المنافع، كما في سورة البروج.
وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ إلى قوله: ﴿أَبَدًا﴾
(٢) المراغي.