النار. والتكرير للتأكيد؛ أي (١): قدر العذاب الشديد عليهم في علمه على حسب حكمته، أو هيأ أسبابه في جهنم بحيث لا يوصف كنهه، فهم أهل الحساب والعذاب في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فقط، فإن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم؛ لعدم رجوعهم عن الكفر، فعذبوا عذاب الآخرة أيضًا. وهذا المعنى من قوله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾ إلى هنا هو اللائق بالنظم الكريم، هكذا ألهمت به حين المطالعة، ثم وجدت في تفسير "الكواشي" و"كشف الأسرار" و"أبي الليث" و"الأسئلة المقحمة" ما يدل على ذلك. والحمد الله تعالى، فلا حاجة إلى أن يقال: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا، وإن المعنى: عذبناها عذابًا شديدًا في الدنيا، وحاسبناها حسابًا شديدًا في الآخرة، على أن لفظ الماضي للتحقيق، كأكثر ألفاظ القيامة.
ومعنى الآية (٢): أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، وسنحاسبهم حسابًا عسيرًا، ونستقصي عليهم ذنوبهم، ونناقشهم على النقير والقطمير، ونعذبهم عذابًا نكرًا في الآخرة. وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق، كما في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾، ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم، فقال: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا...﴾ إلخ؛ أي: وستجني ثمار ما غرست أيديها، ولا يجنى من الشر إلا الشر، كما جاء في أمثالهم: لا تجني من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقادر قدره. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾؛ أي: هيأ الله لهم العذاب المرتقب؛ لتماديهم في طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاؤوا به من عند ربهم.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم، فقالوا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فخافوا عقاب الله سبحانه ﴿يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: يا أصحاب العقول الراجحة والفطر السليمة ﴿الَّذِينَ﴾ لرجاحة عقولهم وسلامة فطرهم ﴿آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. والموصول في محل النصب نعت للمنادى، أو عطف بيان له، أو منصوب بتقدير: أعني.

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon