أعود، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله: "وقد حلفت" فلم يخبرها به، تكرمًا منه؛ لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه - ﷺ - ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حدّ امتناعه عن تناول ما أحل الله له.
﴿فَلَمَّا﴾ (١) أفشت حفصة الحديث لعائشة، واكتتمتها إياه ﴿نَبَّأَهَا﴾ الرسول ﴿بِهِ﴾؛ أي: أخبر النبي - ﷺ -. حفصة بالحديث الذي أفشته، بما أظهره الله عليه من أنها أفشت سره.. ظنت حفصة أن عائشة فضحتها فـ ﴿قَالَتْ﴾ حفصة له - ﷺ -: ﴿مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾؛ أي: من أخبرك هذا الخبر عني؟ على سبيل التثبت. وفيه تعجب واستبعاد من إخبار عائشة بذلك؛ لأنها أوصتها بالكتم. ولم يقل: من نبأك؛ ليوافق ما قبله للتفنن. ﴿قَالَ﴾ النبي - ﷺ - ﴿نَبَّأَنِيَ﴾ بفتح ياء المتكلم؛ أي: أخبرني الله ﴿الْعَلِيمُ﴾ بظواهر الأشياء ﴿الْخَبِيرُ﴾ ببواطنها، الذي لا تخفى عليه خافية، فسكتت وسلمت. ونبأ أيضًا من قبيل التفنن، يقال: إِنَّ أنبأ ونبأ يتعديان إلى مفعولين: إلى الأول بنفسهما، وإلى الثاني بالباء، وقد يحذف الأول للعلم به، وقد يحذف الجار ويتعدى الفعل إلى الثاني بنفسه أيضًا، فقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ على الاستعمال الأول، وقوله: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ على الاستعمال الثاني، وقوله: ﴿مَنْ أَنْبَأَكَ﴾ على الاستعمال الثالث.
وقوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾ هو والعالم والعلام من أسمائه سبحانه، ومن أدب من علم أنه سبحانه عالم بكل شيء حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخواطر أن يستحي منه، ويكف عن معاصيه، ولا يغتر بجميل ستره، ويخشى بغتات قهره ومفاجأة مكره، والخبير بمعنى العلم.
والمعنى (٢): أي فلما أخبر النبي - ﷺ - حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث.. قالت: من أنباك هذا؟ ظنًا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها رسول الله - ﷺ -، قال: أخبرني ربي العلم بالسر والنجوى، الخبير بما في الأرض والسماء، لا يخفى عليه شيء فيهما.
وفي الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة:

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon