الأوضاع الفلكية كثرة الماء ﴿أُغْرِقُوا﴾ في الدنيا بالطوفان ﴿فَادْخُلُوا﴾ عقب ذلك ﴿نَارًا﴾ عظيمة هائلة. وفي هذا زجر لمرتكب الخطايا مطلقًا. وعبّر عن المستقبل بالماضي لتحقّقه. والمراد (١) إما عذاب القبر، فهو عقب الإغراق وإن كانوا في الماء، فإن من مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: أنهم كانوا يغرقون من جانب؛ أي: بالأبدان، ويحرقون من جانب؛ أي: بالأرواح. فجمعوا بين الماء والنار، كما قال الشاعر:

الخَلْقُ مُجتَمِعٌ طَوْرًا ومُفَتَرِقٌ والْحَادِثَاتُ فُنُونٌ ذَاتُ أَطْوَارِ
لا تَعْجبَنَّ لأضْدَادٍ إذَا اجْتَمَعَتْ فالله يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ
أو عذاب جهنم والتعقيب لتنزيله منزلة المتعقب لإغراقهم لاقترابه وتحقّقه لا محالة واتصال زمانه كما دل عليه قوله - ﷺ -: "من مات فقد قامت قيامته". على أنَّ النار إما نصف نار، وهي للأرواح في البرزخ، وإما تمام نار وهي للأرواح والأجسام جميعًا بعد الحشر. وقس على الجحيم النعيم.
﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ﴾؛ أي: لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾؛ أي: لم يجد أحد منهم لنفسه واحدًا من الأنصار ينصرهم على من أخذهم بالقهر والانتقام. وفيه (٢) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وبأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكّم بهم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ حال متقدّمة من قوله: ﴿نَارًا﴾، والجملة الاستئنافية أعني قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ إلى هنا من كلام الله سبحانه إشعارًا بإجابة دعوة نوح، وتسلية للرسول - ﷺ - وأصحابه، وتخويفًا للعاصي من العذاب وأسبابه.
والمعنى: أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذّبهم في قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارًا ولا أعوانًا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضل سعيهم وخاب فألهم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ جمعًا بالألف والتاء مهموزًا، وأبو رجاء كذلك، إلّا أنه أبدل الهمزة ياءً وأدغم فيها ياء المد. والجحدري وعبيد عن أبي عمرو على الإفراد مهموزًا، والحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم، وأبو عمرو
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon