وتوجب التفكير. فسمى (١) بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت، وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء كيوسف ويونس وهود وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين، وكل ذلك مما نراه. وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه، وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإِسلام إلا من طريق الوحي، وليس للعقل دليلٌ عليه، ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة، وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسي بالعالم الجنّي، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه (٢) البخاري، والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - ﷺ - على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - ﷺ -، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا قرآنًا عجبًا. فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾، وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
وأخرج ابن الجوزي في كتاب "صفوة الصفوة" بسنده عن سهل بن عبد الله قال: كنت في ناحية ديار عاد؛ إذ رأيت مدينة من حجر منقور في وسطها قصر من

(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.


الصفحة التالية
Icon