نطفته من تربة حفرته، كل واحد منهما مشيج بالآخر". وقال الحسن رحمه الله: نطفة مشيجة بدم، وهو دم الحيض، فإذا حبلت ارتفع دم الحيض، وإليه ذهب صاحب القاموس حيث قال: ونطفة أمشاج؛ أي: مختلطة بماء المرأة ودمها انتهى. فيكون النطفتان ودمها جمعًا. وقال الفراء: أمشاجٌ: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم. وقيل (١): الأمشاج لفظ مفرد كبرد أكباش، ويؤيد هذا وقوعه نعتًا لـ ﴿نُطْفَةٍ﴾. وقيل: أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس فلذلك وصفت بالجمع كقوله: ﴿عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾. ذكره أبو حيان.
وجملة قوله: ﴿نَبْتَلِيهِ﴾؛ أي: نختبره بالخير والشرّ. حال من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾؛ أي: خلقناه حال كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف فيما سيأتي، ليتعلق علمنا بأحواله تفصيلًا في العين بعد تعلقه بها إجمالًا في العلم، وليظهر أحوال بعضهم لبعض من القبول والرد والسعادة والشقاوة.
﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: جعلنا الإنسان ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية. فهو (٢) كالمسبب عن الابتلاء؛ أي: عن إرادته، فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء، كأنه قيل: إنا خلقناه مريدين تكليفه، فأعطيناه ما يصح معه التكليف والابتلاء، وهو السمع والبصر وسائر آلات التفهيم والتمييز، وطوى ذكر العقل؛ لأن المراد ذكر ما هو من أسبابه والآلة التي بها يستكمل، فطريقه الأول لأكثر الخلق من السعداء السمع ثم البصر ثم تفهم العقل.
وفي اختيار صيغة المبالغة فيهما إشارة إلى كمال إحسانه إليه وتمام إنعامه. و ﴿بَصِيرًا﴾ مفعول ثان بعد ثان لـ ﴿جعلناه﴾، ويجوز (٣) أن تكون جملة ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ حالًا من الإنسان، والمعنى: مقدرًا ابتلاءه بالخير والشر والتكاليف. قال الفراء: معناه: والله أعلم جعلناه سميعًا بصيرًا نبتليه، وهي مقدمة لفظًا مؤخرة معنى؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وعلى هذا تكون الحال مقدرة، وقيل: مقارنة. وقيل: معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأول أولى.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.