والمعنى (١): أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد، إذا شب وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر، فقال: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾؛ أي: جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر. وهذه من عالم أشرف من عالم المادّة التي هي في أسفل درجات النقص والكمال إنّما نزل إليه من عالم أرقى منها، وهو العالم الروحي الإلهيّ. فهو إما يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإمّا أن يتفكر ويجد بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
والخلاصة: نحن نعامله معاملة المختبر له أيميل إلى أصله الأرضي، فيكون حيوانًا نباتيًّا معدنيًا شهوانيًّا، أم يكون إلهيًّا معتبرًا بالسمع والبصر والفكر، وهي من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكون منها.
٣ - ثم ذكر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة، والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال، فقال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ﴾؛ أي: هدينا الإنسان المذكور وبينا له ﴿السَّبِيلَ﴾؛ أي: سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، ليكون ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾؛ أي: ليكون (٢) الإنسان إما مؤمنًا وإما كافرًا. قيل المعنى: إنا هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكرًا وتارةً كفورًا. وعبارة الروح: قوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ مرتّب (٣) على ما قبله من إعطاء الحواسّ، فإنه استئناف تعليل لـ ﴿جعله﴾ سميعًا بصيرًا. يعني: أن إعطاء الحواس الظاهرة والباطنة والتحلي بها مقدم على الهداية.
والمعنى: أريناه وعرّفناه طريق الخير والشرّ والنجاة والهلاك بإنزال الآيات ونصب الدلائل، كما قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾؛ أي: بينا له طريق الخير والشر، فإن النجد الطريق الواضح المرتفع، فالمراد بالهداية مجرد الدلالة، لا الدلالة الموصلة إلى البُغية، كما في بعض التفاسير. وقوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ حالان من مفعول ﴿وَهَدَيْنَاهُ﴾.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.