على مشاقّ الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال ﴿جَنَّةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿جزاهم﴾؛ أي: بستانًا يأكلون منه ما شاؤوا. ﴿وَحَرِيرًا﴾ يلبسونه ويتزيّنون به. وقرأ الجمهور ﴿وَجَزَاهُمْ﴾، وعليٌّ ﴿وجازاهم﴾ على وزن فاعل. فالمراد بالجنة هنا (١) ليس دار السعادة المشتملة على جميع العطايا والكرامات، وإلا لما احتيج إلى ذكر الحرير بعد ذكر الجنة بل البستان كما ذكرنا، فذكرها لا يغني عن ذكر الملبس. ثم إن البستان في مقابلة الإطعام والصبر على الجوع، والحرير في مقابلة الصبر على العري. لأن اجتناب إيثار الأموال يؤدي إلى الجوع والعري.
والخلاصة: أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار، وما يؤدّي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكول هنيٌّ، وحريرًا منه ملبس بهيٌّ. ونحو الآية قوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾.
١٣ - وقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾؛ أي: على السرر منصوب على الحال من مفعول ﴿جزاهم﴾، والعامل فيها جزى. وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لـ ﴿جَنَّةً﴾، ولكنها سببية، كأنه قال: جنة متكئين فيها على الآرائك.
وقيَّد المجازاة (٢) بتلك الحال؛ لأنه أرفه الأحوال، فكان غيرها لا يدخل في الجزاء. والأرائك: هي السرر في الحجال، تكون في الجنة من الدر والياقوت مزينة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. جمع أريكة كسفينة، ولا تكون أريكة حتى تكون في حجلة، وهي بالتحريك واحدة حجال العروس، وهي بيت مزين بالثياب والستور. والظاهر أن ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾؛ لأن الاتكاء يتعدى بـ (على)؛ أي: مستقرين متمكنين على الأرائك كقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾. ولا يبعد أن يتعلق بمقدر، ويكون حالًا من ضمير متكئين. أي: متكئين فيها على الوسائد أو غيرها مستقرين على الأرائك، فيكون الاتكاء بمعنى الاعتماد.
وجملة قوله: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ في محل النصب على الحال من مفعول ﴿جزاهم﴾، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، فتكون من الحال المتداخلة. أو صفة أخرى لـ ﴿جَنَّةً﴾. والزمهرير: أشد البرد.

(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon