والحسد، وينزع ما كان في أجوافهم من قذر وأذى، وبه تحصل الصفوة المهيئة لانعكاس نور الجمال الإلهيّ في قلوبهم، وهي الغاية القاصية من منازل الصدّيقين، فلذا ختم مقاله ثواب الأبرار به. فالطهور بمعنى المطهّر صيغة اسم الفاعل. وقيل: مبالغة الطاهر من حيث إنه ليس بنجس كخمر الدنيا، وما مسته الأيدي القذرة والأقدام الدنسة، ولا يؤول إلى أن يكون نجسًا بل يرشح عرقًا من أبدانهم له ريح كريح المسك.
والمعنى (١): أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابًا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسّية والركون إلى ما سوى الحقّ فيتجرد لمطالعة جماله والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتطهّر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل عرق المسك، ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله، ونؤمن به كما أخبر به في كتابه.
٢٢ - وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى في مشربهم وملبسهم ومسكنهم.. بين أنّ هذا جزاء لهم على ما قدّموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال، فقال: ﴿إنَّ هَذَا﴾ على (٢) إضمار القول؛ أي: يقال لهم: إنّ هذا الذي ترونه من فنون الكرامات، ويجوز أن يكون خطابًا من الله تعالى في الدنيا للأبرار؛ أي: إنّ هذا الذي ذكر من أنواع العطايا ﴿كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾؛ أي: عوضًا وثوابًا بمقابلة أعمالكم الحسنة. فإن قيل؛ كيف يكون جزاء لأعمالهم وهي مخلوقة لله عند أهل السنة؟
أجيب: بأنّها لهم كسبًا عنده ولله خلقًا. ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ﴾ وعملكم في الدنيا بطاعة الله سبحانه ﴿مَشْكُورًا﴾؛ أي: مرضيًّا مقبولًا مقابلًا بالثواب لخلوص نيّتكم، فيزداد بذلك فرحهم وسرورهم، كما أنَّ المعاقب يزداد غمّه إذا قيل له: هذا جزاء عملك الرديء. فالشكر مجازٌ عن هذا المعنى تشبيهًا له بالشكر من حيث إنّه مقابل للعمل، كما أنَّ الشكر مقابل للنعم. قال بعضهم: أدنى الدرجات أن يكون العبد راضيًا عن ربه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾. وأعلاها كونه مرضيًّا له،

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon