على بعض دون بعض. وقيل: إن من عادة العرب التكرار والإطناب كما أن عادتهم الاقتصار والإيجاز، ولأن بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز، وقد يجد كل أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لا خفاء. قال في "فتح الرحمن": كرّر هنا عشر مرات، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسن، لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكرّرة كما هنا انتهى.
٢٠ - ثم ذكرهم بجزيل نعمه عليهم في خلقهم وإيجادهم مما يستدعي جزيل شكرانهم، فقال: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ﴾؛ أي: ألم نحدثكم. واتفق (١) القرّاء على إدغام القاف في الكاف في هذا الحرف. وذكر النقاش أنه في قراءة ابن كثير ونافع برواية قالون، وعاصم في رواية حفص بالإظهار، قاله في الإيضاح. ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ بهوان الحدوث والإمكان والابتذال؛ أي: من نطفة قذرة مهينة حقيرة، والميم فيه أصلية كما سيأتي، ومهانته: قلته وخسته، وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته؛ أي: خلقناكم منه،
٢١ - ولذا عطف عليه قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: الماء ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾؛ أي: في مكان حريز يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء، وهو الرحم بكسر الحاء المهملة؛ أي وعاء الولد في بطن الأمّ. فالقرار موضع الاستقرار، والمكين: الحصين؛ أي (٢): جعلنا ذلك الماء في مقرٍّ حصينٍ يتمكن فيه الماء محفوظًا سالمًا من التعرض له، فمكين من المكانة بمعنى التمكن لا منها بمعنى المنزلة والمرتبة من الكون، يقال: رجل مكين في مكة؛ أي: متمكن فيها، ومكين عند الأمير؛ أي: ذو منزلة ومرتبة عنده، فيكون فعيلا لا مفيلا.
٢٢ - ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢)﴾؛ أي: مقدار معلوم من الوقت الذي قدّره الله تعالى للولادة تسعة أشهر أو أقل منها، أو أكثر، وهو في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: مؤخّرًا إلى مقدار معلوم من الزمان، وقيل: إلى أن يصور.
٢٣ - ﴿فَقَدَرْنَا﴾؛ أي: فقدرناه، والمراد تقدير خلقه وجوارحه وأعضائه وألوانه ومدة حمله وحياته. وقيل: المعنى: قدرناه قصيرًا أو طويلًا، وقيل معنى ﴿قدرنا﴾ ملكنا. وقرأ الجمهور ﴿فَقَدَرْنَا﴾ بالتخفيف. وقرأ علي بن أبي طالب ونافع والكسائي بالتشديد من التقدير، نظير (٣) قوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾. قال الكسائي
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.