النبوة، ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونًا والكتب والأقلام أعدّت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي؟. وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحًا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربّنا إلا بالأمور العظام، فإذا أقسم بالشمس والقمر والليل والفجر، فإنّما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعم العلم والعرفان، وبه تتهذّب النفوس، وترقى شؤوننا الاجتماءتية والعمرانية، ونكون كما وصف الله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالًا لأمره ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)﴾ قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيَتَبَيَّنُ لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنّه سيكون العزيز المهيب في القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولي عليهم ويأسر فريقًا منهم ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذٍ من المجنون، والله هو العلم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر مقالة المشركين في الرسول بنسبته إلى الجنون مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في الدين والخلق، أردفه بما يقوّي قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه مع قلة العدد، وكثرة الكفار؛ إذ هذه السورة من أوائل ما نزل كما مرّ، فنهاهم عن طاعتهم عامةً. ثم أعاد النهي عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت في هذه الآيات خاصة دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرّد لما آتاه الله من النعم أردف هذا ببيان أنّ ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانًا، ليرى أيصرف ذلك في طاعة الله وشكره، فيزيد له في النعمة أم يكفر بها، فيقطعها عنه ويصبّ عليه ألوان البلاء والعذاب، كما أنّ أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمَّر الله جنتهم، فما بالك بمن حاد الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية؟.