واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا مضربين عن قولهم الأوّل: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧)﴾؛ أي: لسنا بضالين بل نحن قد حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا بشؤم عزمنا على البخل، ومنع مساعدة البائسين والمعوزين،
٢٨ - وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيًا عنهم: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾؛ أي: أرجحهم رأيًا وأحسنهم تدبيرًا ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا قوم ﴿لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾؛ أي: هلا تذكرون الله سبحانه بالتسبيح والتلهيل والتكبير وغيرها، وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدّوا حق البائس الفقير، وتتوبون إليه من خبث نيتكم ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، ولكنكم أعرضتم عما أظهرتُ لكم به من الرأي، وضربتم به عرض الحائط، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا إليه من هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم.
وفي الآية (١): دليل على أنّ العزم على المعصية مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيرها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)﴾، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾، والعزم: قوة قصد الفعل والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به. وأما الهم وهو ترجيح قصد الفعل فمرفوع.
٢٩ - وبعد اللتيا والتي (٢) وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم، كما حكى عنهم سبحانه بقوله: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾؛ أي: تنزيهًا لربنا عن أن يكون ظالمًا فيما صنع بجنتنا؛ أي: قالوا معترفين بالذنب، والاعتراف به يعد من التوبة: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾؛ أي: تنزه مالك أمرنا عن كل سوء ونقصان سيما عن أن يكون ظالمًا فيما فعل بنا. ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ لأنفسنا بقصد حرمان المساكين اتباعًا لشح النفس، كأنهم قالوا: نستغفر الله من سوء صنيعنا، ونتوب إليه من خبث نيتنا حيث قصدنا عدم إخراج حق المساكين من غلة بستاننا، ولو تكلموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله، لكنّهم تكلَّموا بعد خراب البصرة، هيهات هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصة. وهكذا شأن الإنسان.

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon