السمع لا يكفي في العلم بالتشاغل، بل لا بد من الإبصار على أنه يجوز أنهم كانوا يخفضون أصواتهم عند المكالمة، أو جاء الأعمى في منقطع من الكلام، فكره رسول الله - ﷺ - قطعه لكلامه، واشتغاله به عنه، وعبس وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلِّمهم، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة، فرجع ابن أم مكتوم محزونًا خائفًا أن يكون عبوسه وإعراضه عنه إنما هو لشيء أنكره الله منه، فنزلت هذه الآيات.
فإن قيل (١): ابن أم مكتوم قد استحق التأديب والزجر؛ لأنه وإن كان لا يرى القوم، لكنه لشدة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول معهم، ويعرف بذلك شدة اهتمامه بشأنهم، فيكون إقدامه على قطع كلام رسول الله - ﷺ - إيذاءً له، وهو معصية، وأيضًا: الأهم مقدم على المهم؛ لأن إسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم، فكان الاشتغال بهم، وتقدير الدلائل لهم أهم، فكيف عاتب الله تعالى رسوله على التولي عنه؟
أجيب: بأن ما فعله يوهم ظاهره تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وليس ذكره بلفظ الأعمى مقتضيًا لتحقيره، بل لبيان عذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله - ﷺ -، والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، كما مر. اهـ "زاده".
وكان رسول الله - ﷺ - يكرمه ويقول إذا رآه: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي" أي: لامني مع بقاء المحبة، ويقول: "هل لك من حاجة"، ويقال: إن رسول الله - ﷺ - لم يغتم في عمره كغمه حين أنزلت عليه سورة عبس؛ لأن فيها عتبًا شديدًا على مثله؛ لأنه الحبيب الرشيد، ومع ذلك فلم يجعل ذلك بينه وبينه، فيكون أيسر للعتاب، بل كشف ذلك للمؤمنين، ونبه على فعله عباده المتقين.
ولذلك روي أن عمر بن خطاب - رضي الله عنه - بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه، فلا يقرأ فيهم إلا سورة عبس، فأرسل إليه فضرب عنقه، لما استدل بذلك على كفره، ووضع مرتبته عنده وعند قومه، قال ابن زيد: لو جاز له أن يكتم شيئًا