من الوحي.. لكان هذا، وكذا نحو قوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾، ونحو قوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَبَسَ﴾ مخففًا، ﴿أَن﴾ بهمزة واحد. وقرأ زيد بن علي: ﴿عبس﴾ بتشديد الباء للمبالغة، وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى: ﴿أآن﴾ بهمزة ومدة بعدها. وقرأ بعض القواء بهمزتين مخففتين، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام الإنكاري، وفيهما يوقف على ﴿تَوَلَّى﴾. والمعنى: ألأن جاء الأعمى كان كذا وكذا.
واعلم (٢): أنه كان ما فعله - ﷺ - من باب ترك الأولين، فلا يعد ذنبًا لأن اجتهاده - ﷺ - في طلب الأولى، والتعرض لعنوان عماه، مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه، وهو ينافي تعظيمه المفهوم من العتاب على العبوس في وجهه؛ إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه - ﷺ - للقوم، والإيذان باستحقاقه الرفق والرأفة لا الغلظة كما مر، وإما لزيادة الإنكار، فإن أصل الإنكار حصل من دلالة المقام كأنه تولى لكونه أعمى، وهو لا يليق بخلقه العظيم، كما أن الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ لذلك، فإن المشافهة أدخل في تشديد العتاب، كمن يشكو إلى الناس جانيًا جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهًا له بالتوبيخ؛ أي: وأيُّ شيء يجعلك يا محمد داريًا وعالمًا بحاله، ويطلعك على باطن أمره، حتى تعرض عنه؛ أي: لا يدريك شيء، فتم الكلام عنده فيوقف عليه، وليس ما بعده مفعوله، بل هو ابتداء كلام. وقال السهيلي (٣) - رحمه الله تعالى -: انظر كيف نزلت الآية بلفظ الإخبار عن الغائب، فقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)﴾، ولم يقل: عبست وتوليت، وهذا شبيه حال الغائب المعرض،
٣ - ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ علمًا منه تعالى أنه لم يقصد بالإعراض منه إلا الرغبة في الخير، ودخول ذلك المشرك في الإسلام، وهو الوليد، أو أمية، وكان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير، فكلم نبيه - ﷺ - حين ابتداء الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب، ثم واجهه بالخطاب تأنيسًا له - ﷺ - بعد الإيحاش، فإنه قيل: إن ابن أم مكتوم كان قد أسلم، وتعلم ما كان يحتاج إليه

(١) البحر المحيط
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon