من أمور الدين، وأما أولئك الكفار.. فما كانوا قد أسلموا، وكان إسلامهم سببًا لإسلام جمع عظيم، فكلامه في البين سبب لقطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم، والأهم مقدم على المهم، فثبت بهذا أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصيةً، وما فعله النبي - ﷺ - كان واجبًا، فكيف عاتبه الله سبحانه وتعالى على ذلك؟.
قيل: إن الأمر وإن كان كما ذكر، إلا أن ظاهر ما فعله الرسول - ﷺ - يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وهو لا يليق بمنصب النبوة؛ لأنه ترك الأفضل، كما أشير إليه سابقًا، فلذا عاتبه الله تعالى. انتهى.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه - ﷺ - بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي أن يكون باعثًا على كراهة كلامه، والإعراض عنه لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم، كما قال: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)﴾. ولأنه كان ذكي الفؤاد، إذا سمع الحكمة.. وسماها، فيتطهر بها من أوضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكر بها ويتعظ، فتنفعه العظة في مستأنف أيامه. أما أولئك الأغنياء.. فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغي التصدي لهم طمعًا في إقبالهم على الإسلام ليتبعهم غيرهم، وقوة الإنسان إنما هي في ذكاء لبه وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لاحت له أمارته، أما المال والنسب والحشم والأعوان.. فهي عوار تجيء وترتحل، وتقر حينًا، ثم تنتقل.
والخلاصة: أن الله سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذي العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذي الجاه القوي، فإن الأول حي بطبعه، والثاني غائب بحسه. ﴿لَعَلَّهُ﴾؛ أي: لعل ذلك الأعمى ﴿لَعَلَّهُ﴾ بتشديدين، أصله: ﴿يَزَّكَّى﴾؛ أي: لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، ويقتبس منك من أوصار الآثام والأوزار