وعدم (١) القضاء محمول على عموم النفي؛ إما على أن المحكوم عليه هو المستغني، أو هو الجنس، لكن لا على الإطلاق، بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده، وقد أسند إلى الكل، فلا شياع في اللوم بحكم المجانسة، وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي، فالمعنى: لم يقض جميع أفراده ما أمره، بل أخل به بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره إلا القليل، مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشامل للكل أن لا يتخلف عنه أحد أصلًا.
وقال الحسن: حقًا لم يفعل ما أمره به، فـ ﴿كَلَّا﴾: بمعنى: حقًا. قال ابن الأنباري: فالوقف على ﴿كَلَّا﴾ حينئذٍ قبيح، فيكون ﴿كَلَّا﴾ تابعًا لما بعده، فالوقف على ﴿مَا أَمَرَهُ﴾ حينئذٍ. وقال بعض أهل التفاسير: ﴿ما﴾ في قوله: ﴿لَمَّا﴾ صلة دخلت للتأكيد، كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، فـ ﴿لَمَّا﴾ بمعنى: لم، وليس فيه معنى التوقع. و ﴿مَا﴾ في ﴿مَا أَمَرَهُ﴾، موصولة، وعائدها يجوز أن يكون محذوفًا، والتقدير: ما أمره به، فحذف الجار أولًا، فبقي ما أمره هو، ثم حذف الهاء العائد ثانيًا، ويجوز أن يكون باقيًا على أن المحذوف من الهاءين هو العائد إلى الإنسان، والباقي هو العائد إلى الموصول، فاعرف وقس عليه أمثاله.
وحاصل معنى الآية: ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)﴾؛ أي (٢): حقًا أن حال الإنسان لتدعو إلى العجب، فإنه بعد أن رأى في نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الاثار ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار لم يقض ما أمره به ربه من التأمل في دلائل قدرته، والتدبر في معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدًا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.
والخلاصة (٣): أن الإنسان قد بلغ في جحده آيات خالقه مبلغًا لا ينتهي منه العجب؛ إذ قد رأى في نفسه، وفي السموات والأرض، وسائر ما يحيط به من العوالم الآيات الناطقة بوحدانية الخالق الدالة على عظيم قدرته، ثم لا يزال مستمرًا في نكران نعمته عليه، فهذا ذكر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.


الصفحة التالية
Icon