بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده عن أهله، حتى يأخذ حلوانًا؛ أي: أجرة، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وفيه إشارة إلى أن إمساك العلم عن أهله بخل، مأخوذ من ضن بالشيء يضن - بالفتح - ضنًا بالكسر وضنانة - بالفتح -: إذا بخل، فيكون من باب علم، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف.
وهكذا قرأ: ﴿بِضَنِينٍ﴾ بالضاد المعجمة عثمان وابن عباس أيضًا، والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وجمهور السبعة: نافع وعاصم وحمزة وابن عامر. قال في "النشر": هو كذلك في جميع خطوط المصاحف التي يتداولها الناس، وقرأ عبد الله وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم، ومن السبعة: ابن كثير وأبو عمرو الكسائي: ﴿بظنين﴾ بالظاء المشالة على أنه فعيل بمعنى: مفعول، أي: بمتهم، من الظنة - بكسر الظاء -: وهي التهمة، واختار أبو عبيدة هذه القراءة؛ لأن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل، ولأن البخل يتعدى بالباء لا بعلى، والمعنى على هذه القراءة: أي: وليس محمد بمتهم على القرآن، وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين، لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفًا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل، وسماع الشرائع منه، وفي "الكشاف": هو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبي بالضاد، وكان رسول الله - ﷺ - يقرأ بهما، ولابد للقارىء من معرفة مخرجي الضاد والظاء، فإن مخرج الضاد: من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، ومخرج الظاء: من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا.
فإن قيل (١): فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكانه، فهل تبطل الصلاة؟.
قلنا: قال في "المحيط البرهاني": إذا أتى بالظاء مكان الضاد، أو على العكس، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، وقال مشايخنا بعدم الفساد للضرورة في حق العامة، خصوصًا العجم، فإن أكثرهم لا يفرقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقًا غير صواب.