أي (١): الاستقامة مشيئةٌ مستتبعةٌ لها في وقت من الأوقات، يا من يشاؤها، وذلك أن الخطاب في قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ﴾ يدل على أن منهم من يشاء الاستقامة، ومنهم من لا يشاؤها، فالخطاب هنا لمن يشاؤها منهم، يروى أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)﴾. قال: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ إلخ. ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من إقامة المصدر موقع الزمان؛ أي: إلا وقت أن يشاء الله تعالى تلك المشيئة المستتبعة للاستقامة، فإن مشيئتكم لا تستتبعها بدون مشيئة الله لها؛ لأن المشيئة الاختيارية مشيئة حادثة، فلابد لها من محدث، فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها، فظهر أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتًا ونفيًا موقوفة الحصول على مشيئة الله، كما عليه أهل السنّة. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: مالك الخلق ومربيهم أجمعين بالأرزاق الجسمانية والروحانية، وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم، تريد وأريد، فتتعب فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد"، قال وهب بن منبه: قرأت في كتب كثيرة: مما أنزل الله على الأنبياء "إنه من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة.. فقد كفر". قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: أعجزك في جميع صفاتك، فلا تشاء إلا في مشيئته، ولا تعمل إلا بقوته، ولا تطيع إلا بفضله، ولا تعصي إلا بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبما تفتخر من أعمالك، وليس منها شيء إليك إلا بتوفيقه. انتهى.
والمعنى (٢): أي إنَّ إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله تعالى فيكم بقدرته الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم إرادة فعل الخير، فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة، وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها. وفي قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ بيان لعلة هذا؛ فإنه لما كان رب العالمين هو الذي مَنَحَكُم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم.. كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما
(٢) المراغي.