يجوز في حكمته أن يهمله، فلا يعاقبه على سوء أعماله، وهذا زجر لجميع المكلفين عن المعاصي كلها. قال الواسطي رحمه الله تعالى: كان بصيرًا به، إذ خلقه لماذا خلقه، ولأي شيء أوجده، وما قدر عليه من السعادة أو الشقاوة، وما كتب له أو عليه من أجله ورزقه. انتهى.
وحاصل المعنى (١): أي بلى ليحورن، وليبعثن، وليرجعن إلى ربه، وليحاسبنه على عمله حتى على النقير والقطمير، فيجزى على الخير خيرًا، وعلى الشر شرًا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدًا لما لا يتناهى من الكمال، وبما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة، لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقتضي حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة، ويثمر فيها أعماله، ويوافي فيها كماله.
١٦ - ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ كلمة ﴿لا﴾ زائدة للتوكيد، كما مر مرارًا، و ﴿الفاء﴾: استئنافية؛ أي: فأقسم لكم أيها العباد ﴿بِاَلشَفَقِ﴾، وهي (٢) الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، وبغيبوبتها يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماء، أو البياض الذي يعقبها، ولا يدخل وقت العشاء إلا بزواله، سمي به على كل من المعنيين لرقته، لكن مناسبته لمعنى البياض أكثر، وهو من الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب، ولا شك أن الشمس - أعني: ضوءها - يأخذ في الرقة والضعف من غيبة الشمس إلى أن يستولي سواد الليل على الآفاق كلها. وعن عكرمة ومجاهد: الشفق: هو النهار، بناءً على أن الشفق هو أثر الشمس، وهو كوكب نهاري، وأثره هو النهار، فعلى هذا يقع القسم بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والآخر سكن، وبهما قوام أمور العالم، وفي "المفردات": الشفق: أختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس.
١٧ - ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾ قال الراغب: الوسق: جمع المتفردق؛ أي: وأقسم لكم بالليل وبما جمعه وما ضمه وستره بظلمته، فـ ﴿ما﴾ موصولة، يقال: وسقه فاتسق واستوسق، يعني: أن كلًّا منهما مطاوع لوسق؛ أي: جمعه فاجتمع.
و ﴿ما﴾ عبارة عما يجتمع بالليل، ويأوي إلى مكانه من الدواب والحشرات والهوام والسباع، وذلك أنه إذا أقبل الليل.. أقبل كل شيء إلى مأواه مما كان

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon