يكونوا يبلغونه إلا بمثل ذلك الصبر، وأن يعاقب أولئك الكافرين عقابًا لم يكونوا يستوجبونه إلا بمثل ذلك الفعل، وكان قد جرى بذلك قضاؤه على الفريقين جميعًا في سابق تدبيره وعلمه، وفيه تشنيع على الكفار بغاية جهلهم، حيث عدوا ما هو منقبة هي سبب المدح منقصةً هي سبب القدح.
ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين، وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أقوال الفريقين وأفعالهم وأحوالهم وشؤون غيرهما ﴿شَهِيدٌ﴾؛ أي: مطلع، فهو عليم بما يكون من خلقه، ومجازيهم عليه، لا تخفى عليه منهم خافية، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين، فإن علمه تعالى بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما حتمًا. قال الإمام القشيري: الشهيد: العليم، ومنه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾؛ أي: علم الله، والشهيد: الحاضر، وحضوره بمعنى: علمه ورؤيته وقدرته، والشهيد: مبالغة من الشاهد، وإذا علم العبد أن الله تعالى شهيد يعلم أفعاله، ويرى أحواله.. سهل عليه ما يقاسيه لأجله. قالوا: ودلت هذه القصة على أن المكره على الكفر بنوع من العذاب، الأولى له أن يصبر على ما خوف منه، وان كان إظهار الكفر كالرخصة في ذلك.
حُكي: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي - ﷺ -، فقال لأحدهما: تشهد أني رسول الله، فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا بل أنت كذاب، فقتله، فقال النبي - ﷺ -: "أما الذي تركه فأخذ بالرخصة، فلا تبعة عليه، وأما الذي صبر.. فأخذ بالفضل، فهنيئًا له".
١٠ - ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالإحراق وغيره بسبب إيمانهم؛ أي: إن (١) الذين محنوهم في دينهم وآذوهم وعذبوهم بأي عذاب كان ليرجعوا عنه، كأصحاب الأخدود ونحوهم، كما روي أن قريشًا كانوا يعذبون بلالًا وأضرابه، فالموصول للجنس، وإنما لم يدفع البلاء قبل الابتلاء؛ لأن أهل الولاء لا يخلو عن البلاء:

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon