بفنون من العذاب، وعذبوا بلالًا بما لا يحصى من ضروب الأذى، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم، وألحقوا به كثيرًا من العنت والأذى، فرموه بالحجارة حتى أدموه، بل فعلوا معه أكثر من هذا، فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه، ويتمنون إن تمكنوا منه أن يقتلوه، ولكن الله منعه منهم، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
وفي قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم.. غفر الله لهم ما قدموا قبل التوبة من ذنب، كما مر.
١١ - وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم.. أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم؛ ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد في غيظهم، وأبعث للأسى والحزن في نفوسهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ على الإطلاق من المفتونين وغيرهم، والمعنى: إن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات ﴿لَهُمْ﴾ بسبب ما ذكر من الإيمان، والعمل الصالح الذي من جملته الصبر على أذى الكفار، وإحراقهم. إيراد (١) الفاء أولًا، وتركها ثانيًا يدل على جواز الأمرين. ﴿جَنَّاتٌ﴾ يجازون بها بمقابلة النار ونحوها ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة، يجازون بذلك بمقابلة الاحتراق والحرارة ونحو ذلك. قال في "الإرشاد": إن (٢) أريد بالجنات الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر، وهو الشجر، فإن أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. انتهى.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور العظيم الشأن، وهو حصول الجنات لهم ﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ الذي لا يعدله فوز آخر، وتصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، فالحصر إضافي. قال في "برهان القرآن": ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، و ﴿الْفَوْزُ﴾: خبره، و ﴿الْكَبِيرُ﴾: صفته، وليس له في القرآن نظير، والفوز النجاة من الشر، والظفر بالخير، فإن أشير بذلك إلى الجنات نفسها، فهو مصدر أطلق على المفعول مبالغةً، وإلا فهو مصدر على حاله.
(٢) أبو السعود.