وحكى هارون أنه قرىء ﴿إن﴾ بالتشديد ﴿كلَّ﴾ بالنصب، فاللام هي الداخلة في خبر ﴿إن﴾ و ﴿ما﴾ زائدة، و ﴿حَافِظٌ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، والمعنى: إن كل نفس لعليها حافظ، والظاهر (١) عموم كل نفس، وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما: إن كل نفس مكلفة عليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، فيكون في الآية وعيد وزجر، وما بعد ذلك يدل عليه واختلف في الحافظ: فقيل: الحافظ: هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وقيل: الحافظ: هو الله سبحانه، وقيل: هو العقل يرشدهم إلى المصالح، ويكفهم عن المفاسد، والأول أولى؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠)﴾، وقوله: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾، وقوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾، والحافظ في الحقيقة: هو الله سبحانه وتعالى، كما في قوله: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ وحفظ الملائكة من حفظه؛ لأنهم بأمره.
٥ - ولما ذكر (٢) أن كل نفس عليها حافظ.. أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل لذلك، ولا يملي على حافظ إلا ما يسره في عاقبته فقال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: (٣) ليتفكر الإنسان المركب من الجهل والنسيان، المنكر للنشور والحشر والميزان ﴿مِمَّ﴾؛ أي: من أي شيء، فأصله مما حذفت الألف تخفيفًا كما مرَّ في ﴿عَمَّ﴾؛ أي: من أي شيء ﴿خُلِقَ﴾ حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، بل أقدر على قياس العقل، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويجديه، ولا يملي حافظه ما يرديه. والفاء في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل نفس عليها حافظ، وأردت معرفة قدرة ذلك الحافظ.. فأقول لك: لينظر الإنسان مم خلق؛ أي: لينظر بعقله، ويتدبر بقلبه في مبدأ خلقه، ليتضح له قدرة حافظه الذي وهب له العقل، وأنه إذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط.. فهو على إعادته أقدر، فليعمل بما به يسر حين الإعادة.

(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon