﴿مَبْثُوثَةٌ﴾: كثيرة. وقال الواحدي: ويجوز أن يكون أنها مفرقة في المجالس، والظاهر (١) أن معنى البث: التفرق مع كثرة، ومنه: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾، والمعنى: أي: وفيها بسط مبسوطة في المجالس، بحيث يرى في كل مجلس من مجالسهم منها شيء كما يرى في بيوت المترفين وذوي الثراء في الدنيا.
وقد ذكر (٢) سبحانه كل ما سلف تصويرًا لترف أهل الجنة تصويرًا يقربه من عقولهم، ويستطيعون به إدراكه وفهمه، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر، ويعلو فوق متناول الإدراك، فالأشياء التي عددها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي في هذه الحياة بأسمائها، فأما حقائقها وذواتها.. فليست مثلها ولا قريبًا منها، كما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
١٧ - ولما (٣) ذكر الله سبحانه وتعالى أمر القيامة، وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم.. أتبع ذلك بذكر هذه الدلائل، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائمًا، فقال: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)﴾، وهي الجمال، فإنه اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المنافع من أكل لحمها، وشرب لبنها، والحمل عليها، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة، وعيشها بأي نبات أكلته، وصبرها على العطش، حتى إن فيها ما يرد الماء لعشر، وطواعيتها لمن يقودها، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال، وكثرة حنينها، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها، ولا شيء من الحيوان جمع هذه الخصال غيرها، وقد أبان تعالى امتنانه بها عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ...﴾ الآيات، ولكونها أفضل ما عند العرب جعلوها دية القتل، ووهبوا المئة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها، كقول بعضهم:
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.