إلا بأمور الدنيا وشهواتها، فإذا أنعم الله عليه وأوسع له في الرزق.. ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه، وجنبه منازل العقوبة، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهي، ولا يبالي أكان ما يصنع خيرًا أو شرًا، فيطغى ويفسد في الأرض، وإذا ضيق عليه الرزق وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص، أو لتظهر قوة صبره، فإن الفقر لا يزيد ذوي العزائم إلا شكرًا يقول: ربي قد أهانني، ومن أهانه الله وصغرت قيمته لديه.. لم يكن له عناية بعمله، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر، أو يكافئه على ما يصنع من خير، فلا شكره يكافأ بإحسان، ولا كفره يجازى بعقوبة، فينطلق بكسب عيشه بأي وسيلة عنت له، ولا تحجزه شريعة، ولا يقف أمامه قانون، ويسلك سبيل الجبان، ويبخس الحقوق، ويفسد نظم المجتمع، ولا تزال أحوال الناس هكذا، كما وصف الله تعالى، فأرباب السلطان يظنون أنهم في أمن من عقاب ربهم، ولا يذكرونه إلا بألسنتهم، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم، لا يبالون ماذا يفعلون.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين خطأ (١) الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه.. أردف ذلك بزجرهم عما يرتكبون من المنكرات، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان، وكانوا على الحال التي يرتقي إليها الإنسان، لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس، فعنوا بإكرامه، فإن الذي يفقد أباه معرض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح.. لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم، ويشتدون في أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه، ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية.
وصفوة القول: أن شرههم في المال، وقومهم إلى اللذات، وانصرامهم إلى التمتع بها، ثم قسوة قلوبهم إلى أن لا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشؤون

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon