الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والسوط: الجلد المضفور، أي: المنسوج المفتول الذي يضرب به، قال أبو حيان: استعير السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، والتعبير (١) عن إنزاله بالصب: للإيذان بكثرته واستمراره وتتابعه، فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان، كالرمل والحبوب، وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار، ونسبته إلى السوط مع أنه ليس من ذلك القبيل باعتبار تشبيهه في نزوله المتتابع المتدارك، على المضروب بقطرات الشيء المصبوب.
فإن قلت: أليس أن الله تعالى قال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾، وهو يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة، فبين الآيتين معارضة، فكيف الجمع بينها؟.
قلت: إنه يقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة، وذلك لا ينافي أن يعجل شيء من ذلك في الدنيا، فإن الواقع في الدنيا شيء من الجزاء ومقدماته، كذا في "حواشي ابن الشيخ".
يقول الفقير: وأوجه من ذلك: أن المفهوم من الآية المؤاخذة لكل الناس، وهو لا ينافي أن يؤاخذ بعضهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كبعض الأمم السالفة المكذبة، قال الشاعر:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِيْنَهُ وَصَبَّ عَلَى الْكُفَّارِ سَوْطَ عَذَابِ
وحاصل معنى الآيات: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١)﴾ إلخ؛ أي: إن (٢) هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم في هضم حقوق الناس، واغتروا بعظيم قدرتهم، فكان سببًا في إفساد البلاد، ذاك أن من اغتر بنفسه، وتهاون بحقوق غيره، واعتدى عليها، وأخذ ما ليس له، ولم يعط الذي عليه.. يكون قد فكك شمل الجماعة، وأفسد في البلاد، فيختل نظام العمران، ويقف دولاب التعامل، ويوجس كل امرىء خيفةً من بني جلدته، ولا شك أن أممًا هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار، ومن ثَمَّ ذكر عاقبة أمرها، فقال {فَصَبَّ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon