وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" تدرك سر ذلك إلى أن من يمتحنهم الله تعالى بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن الله قد اصطفاهم على عباده، ورفعهم فوق سائر خلقه، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب، ويسيروا في طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية، لا يرجعون إلى ربهم، ولا يدركون أن ما عنده خيرٌ وأبقى.
وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب (١): ﴿أكرمني﴾ و ﴿أهاني﴾ بإثبات الياء فيهما وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع: بإثبات الياء فيهما وصلًا وحذفهما وقفًا، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ الباقون: بحذف الياء فيهما وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، ولموافقة رؤوس الآي، والأصل: إثباتها لأنها اسم، ومن حذفها في الوقف سكن النون فيه، وقرأ الجمهور: ﴿فَقَدَرَ﴾ بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن - بخلاف عنه - وابن عامر: بتشديدها، وهما لغتان، قال الجمهور: هما بمعنى واحد بمعنى: ضيق، والتضعيف فيه للمبالغة للمتعدي، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: ﴿رَبِّي﴾ بفتح الياء في الموضعين، وأسكنها الباقون.
تتمة: وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف ذم من يقول: ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ مع أنه صادق فيه؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ ومع أنه متحدِّث بالنعمة، وهو مأمور بالتحدث بها؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾؟
قلت: المراد أن يقول ذلك مفتخرًا به على غيره، كما أشرنا إليه في حلنا السابق، ومستدلًا به على علو منزلته في الآخرة، ومعتقدًا استحقاق ذلك على ربه، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾، وكل ذلك منهي عنه مذموم، وأما إذا قاله على وجه الشكر، والتحدث بنعمة الله تعالى، فليس بمذموم، بل هو ممدوح.
١٧ - وقوله: ﴿كَلَّا﴾ ردع للإنسان القائل في الحالتين، وزجر له عن مقالته المحكية، وتكذيب له فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قد يوسع الرزق، ويبسط النعم

(١) البحر المحيط والشوكاني.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon