بالفقر لهوانه عليَّ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة، فقد أوسع على الكافر لا لكرامته، وأضيق على المؤمن لا لهوانه، وإنما أكرم المرء بطاعته، وأهينه بمعصيته، وقد أوسّع على المرء بالمال لأختبره أيشكر أم يكفر، وأضيق عليه لأختبره أيصبر أم يضجر، ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال، فقال: ﴿بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾؛ أي: بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم، تدل على تهالككم على المال، فقد يكرمكم الله تعالى بالمال الكثير، فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره، والإحسان إليه، وقد جاء في الحديث الحث على ذلك، فمنه قوله - ﷺ -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام.
١٨ - ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ بحذف إحدى التاءين من: تتحاضون، والحض: الحث والتحريض، أي: لا يحض (١) بعضكم بعضًا، ولا يحث من أهل وغيره شكرًا لإنعام الله تعالى ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾؛ أي: على إطعام جنس المسكين، وإصلاح شأنه، ومن لا يحض غيره على إطعامه فأن لا يطعمه بنفسه أولى، فيؤول المعنى إلى أن يقال: ولا تطعمون مسكينًا ولا تأمرون بإطعامه، وفيه ذم بليغ للبخيل.
والخلاصة: وإذا لم تكرموا اليتيم، ولم يوص بعضكم بعضًا بإطعام المسكين، فقد كذبت مزاعمكم في أنكم قوم صالحون، وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام، فيقول: ولم تطعموا المسكين، ليبين أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يوصي بعضهم بعضًا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع التزام كل بفعل ما يأمره أو ينهى عنه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم (٢): ﴿تَحَاضُّونَ﴾ بفتح التاء وبالألف، أصله: تتحاضون، وهي قراءة الأعمش؛ أي: لا يحض بعضكم بعضًا، وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيزري عن الكسائي كذلك، إلا أنهم ضموا التاء؛ أي: تحاضون أنفسكم؛ أي: يحض بعضكم بعضًا، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى: فعل أيضًا.

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon