قال في "الكشاف": فإن قلت: كيف تعلق قوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾ بما قبله؟
قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله - ﷺ - والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإِسلام؛ لافتقار أهله واحتقارهم، فذكَّره ما أنعم الله به من جلائل النعم، ثم قال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ...﴾ إلخ، كأنه قيل: خولناك من جلائل النعم، فكن على ثقة بفضل الله ولطفه، فإن مع العسر يسرا كثيرًا. انتهى.
وفي كلمة ﴿مَعَ﴾ إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر، وإلا فالظاهر ذكر كلمة المعاقبة لا أداة المصاحبة؛ لأن الضدين لا يجتمعان، بل يتعاقبان، وقال بعضهم هي: معية امتزاج لا معية مقارنة ولا تعاقب، ولذلك كررها، فلولا وجود اليسر في العسر.. لم يبق عسر لعموم الهلاك، ولولا وجود العسر في اليسر. لم يبق يسر:
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ
ثم إن العسر يؤول كله إلى اليسر، فقد سبقت الرحمة الغضب، وذلك عناية من الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك قد يكون مصقلة وجلاء لقلوب الأكابر، وتوسعة لاستعدادهم، فتتسع لتجلي الأنوار والمعارف، وكما أن حظهم من الملائم أوفر، فكذلك غير الملائم، قال النبي - ﷺ -: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".
ولذلك قال الله تعالى: ﴿أدعوني أستجب لكم﴾، وقال - ﷺ -: "إن الله يحب الملحين في الدعاء"، وفي تعريف العسر وتنكير اليسر إشارة لطيفة إلى أن الدنيا دار العسر، فالعسر عند السامع معلوم معهود، واليسر مجهول مبهم.
٦ - ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرًا وتأكيدًا، فقال مكررًا له بلفظه: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾: إن (١) مع ذلك العسر المذكور سابقًا يسرًا آخر، لما تقرر من أنه إذا أُعيد المعرَّف يكون الثاني غير الأول، سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المُنكّر إذا أعيد، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في

(١) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon