الغالب، كقولك: كسبت درهمًا، فأنفقت درهمًا، فالثاني غير الأول، وإذا قلت: كسبت درهمًا فأنفقت الدرهم، فالثاني هو الأول، كما قال السيوطي في "عقود الجمان":
ثُمّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ | إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ |
تَغَايَرَتْ وَإنْ يُعَرَّفْ ثَانِيْ | تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ |
فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف، فكان عسرًا واحدًا، واليسر مكرر بلفظ التنكير، فكانا يسرين، فكأنه سبحانه قال: فإن مع العسر يسرًا إن مع ذلك العسر يسرًا آخر، قال الحسن: لما نزلت هذه الآية.. قال رسول الله - ﷺ -: "أبشروا فقد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين"، وقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين. وزيف أبو (١) علي الحسن بن يحيى الجرجاني هذا القول، وقال: قد تكلم الناس في قوله: لن يغلب عسر يسرين، فلم يحصل منه غير قولهم: إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فواجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول فيه معترض، فإنه إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفًا إن مع الفارس سيفًا، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدًا، والسيف اثنين، فمجاز قوله - ﷺ -: "لن يغلب عسر يسرين" أن الله عز وجل بعث نبيه - ﷺ - وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيَّره بذلك حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالًا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فاغتم النبي - ﷺ - لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره، فعددَّ الله سبحانه نعمه عليه في هذه السورة، ووعده الغنى؛ ليسلَّيه بذلك عما خامره من الغم، فقال تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥)﴾؛ أي: لا يحزنك الذي يقولون، فإن مع العسر الذي في الدنيا يسرًا عاجلًا، ثم أنجز ما وعده، وفتح عليه القرى القريبة، ووسَّع ذات يده حتى كان يُعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السنية، ثم ابتدأ فضلًا آخر من أمور الآخرة، فقال تعالى:
﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾، والدليل (٢) على ابتدائه تعنيه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين.