أي: وأقسم بهذا البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى بميلاد رسوله محمد - ﷺ - فيه، وكرَّمه بالبيت الحرام، وهو مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، ومعنى ﴿الْأَمِينِ﴾؛ أي: الآمن، فالأمين مبالغة آمن؛ أي: آمن من فيه، ومن دخله، وكل ما فيه من طير وحيوان وشجر جاهليه وإسلامًا، مِن قتلٍ وسبي واصطياد وقطع، كما يحفظ الأمين ما ائتُمن عليه، من أَمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ أي: بمعنى المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل والعاهات، كما وُصف بالأمن في قوله تعالى: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ بمعنى ذي أمن، وفي الحديث: "من مات في أحد الحرمين بُعث يوم القيامة آمنًا" وفيه مقال.
وحكمة القسم بهذه الأشياء (١): الإبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين، فمنبت التين والزيتون: مهاجر إبراهيم ومولد عيسى، ومَنْشَؤُهما عليهما السلام، والطُور: المكان الذي نودي فيه موسى عليه السلام، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين، ومولد رسول الله - ﷺ - ومبعثه.
وخلاصة ما سلف: أن الله سبحانة أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز في تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور،
٤ - ثم ذكر المقسم عليه، فقال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: جنس الإنسان؛ لأن المراد بالإنسان الماهية من حيث هي الشاملة للمؤمن والكافر. ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتعديل؛ أي: في أحسن صورة (٢)، فجعلناه مديد القامة حسن البزة، يتناول بيده ما يريد، لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه، إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطول ما يستمد إلى كل شيء. لكن قد غفل عما ميز به وظن نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزود من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه في معاده، وما يرضي به ربه، وما يوصله إلى

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon