ومعناه: ثم إن اللوح المحفوظ قلب هذا التعين، ولكن قلب الإنسان ألطف منه؛ لأنه زبدته وأشرفه؛ لأن القرآن نزل به الروح الأمين على قلب النبي المختار.
وهنا سؤال: وهو أن الملائكة بأَسْرِهِم صعقوا ليلة نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة، كما ورد فيما وجهه.
والجواب: أن محمدًا - ﷺ - عندهم من أشراط القيامة، والقرآن كتابه، فنزوله دل على قيام الساعة، فصعقوا هيبة منه، وإجلالًا لكلامه ووعده ووعيده، ثم إن القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وهذا هو البيان الأول، ولم ندر نهارًا أنزل فيه أم ليلًا، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ وهذا هو البيان الثاني، ولم ندر أي ليلة هي، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾، فهذا هو البيان الثالث الذي هو غاية البيان.
فالصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر، ولتقدير الأمور فيها، سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة تقدير الأحكام، والأمور السفلية، ويشهد التنزيل لما ذكرنا؛ إذ في أول الآية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، ثم وصفها فقال: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)﴾، والقرآن إنما نزل في ليلة القدر، فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾، كذا في "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي رحمه الله تعالى.
فإن قلت (١): ما الحكمة في إنزال القرآن ليلًا؟
قلت: لأن أكثر الكرامات ونزول النفحات والأسرار في السموات يكون بالليل، والليل من الجنة؛ لأنها محل الاستراحة، والنهار من النار؛ لأن فيه المعاش والتعب، والنهار حظ اللباس والفراق، والليل حظ الفراش والوصال، وعبادة الليل أفضل من عبادة النهار؛ لأن قلب الإنسان فيه أجمع، والمقصود من

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon