لغفارية رب العالمين.
وقوله: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْر﴾ متعلق بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾ أيضًا؛ أي: تنزل من أجل كل أمر من الأمور قد قدر وقضي في تلك السنة من خير من شر؛ أي: لأجل إنفاذ كل أمر قد قدر في تلك السنة، فـ ﴿مِنْ﴾ للتعليل، فإن قيل (١): المقدرات لا تُفعل في تلك الليلة، بل في تمام السنة، فلماذا تنزيل الملائكة فيها لأجل تلك الأمور؟.. قيل: لعل تنزلهم؛ لتعين إنفاذ تلك الأمور، وتنزلهم لأجل كل أمر ليس تنزل كل واحد لأجل كل أمر، بل ينزل الجمع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، وقيل: إن ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء؛ أي: بكل أمر من الخير والبركة كقوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمر الله، قيل: يقسم جبريل عليه السلام تلك الليلة بقية الرحمة في دار الحرب على من علم الله أنه يموت مسلمًا، فبتلك الرحمة التي قسمت عليهم ليلة القدر يُسلِمون ويموتون مسلمين.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَمْرٍ﴾ وهو واحد الأمور، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي: ﴿من كل امرىء﴾ مذكر امرأة؛ أي: من أجل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة، فيسلمون على كل إنسان، فـ ﴿مِنْ﴾ على هذا بمعنى: على، والأول أولى، وقد تم الكلام عند قوله: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، وما بعده مستأنفة، والمعنى؛ أي (٣): تنزلت الملائكة من عالمها حتى تمثلت لبصره - ﷺ -، وتمثل له الروح جبريل مبلغًا للوحي، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ لعباده ما فيه الخير والبركة لهم، ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شؤونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه المادي بشتى وسائله إلا النزر اليسير من الأكوان، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
والخلاصة: أن هذه الليلة عيد المسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك تشاركهم الملائكة فيها بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان، وقد استخلفه في الأرض.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.