التكاثر والتفاخر بالقبائل والعشائر، وقال الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش، وقال مقاتل وقتادة أيضًا وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا، وقال الكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تعادَوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإِسلام، فقال كل حي منهم: نحن أكثر سيدًا، وأعز عزيزًا، وأعظم نفرًا، وأكثر قائدًا، فأكثر بنو عبد مناف على بني سهم، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم بهم، فنزلت: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾ فلم ترضوا ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾ مفتخرين بالأموات، وقيل: نزلت في حيين من الأنصار كما مر، والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها.
وفي الآية: دليل (١) على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾ وحذف (٢) المُلهى عنه؛ أي: الذي أُلهِيَ عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدنيا للتعظيم، والمبالغة، أما الأول فلأن الحذف كالتنكير قد يُجعل ذريعة إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام، وأما الثاني فلأن تذهب النفس كل مذهب ممكن، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مثل: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات، والمندوبات مما يتعلق بالقلب كالعلم والتفكر والاعتبار، أو بالجوارح كأنواع الطاعات، وتعريف التكاثر للعهد. والعهد المذموم هو التكاثر في الأمور الدنيوية الفانية، كالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء، وأما التفاخر بالأمور الأخروية الباقية، فممدوح، كالتفاخر بالعلم والعمل والأخلاق الكريمة والصحة والقوة والغنى والجمال وحسن الصوت إذا كان بطريق تحديث النعمة، ومنه تفاخر العباس - رضي الله عنه - بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن مفتاح البيت بيده إلى أن قال علي - رضي الله عنه -: وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي، فصار الكفر مثلة، ومعنى ﴿التَّكَاثُرُ﴾: مكاثرة اثنين مالًا أو عددًا بأن يقول كل منهما لصاحبه: أنا أكثر منك مالًا وأعظم نفرًا، كما كثر بنو عبد مناف على بني سهم، كما سبق آنفًا.
والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى زرتم المقابر؛ أي: استوعبتم عددهم وصرتم إلى التفاخر والتكاثر بالأموات، فعبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon