أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، من الأول عند الموت في وقت ما بشر به المحتضر من جنة من نار، وفي القبر حين سؤال منكر ونكير: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؛ والثاني عند النشور حين ينادي المنادي: شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها، وحين يقال: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾، فعلى هذا لا تكرار في الآية لحصول التغاير بينهما بتغاير زمانَي العِلْمَين ومتعلقيهما، فإنه يلقى في كل واحد من الزمانين نوعًا آخر من العذاب، و ﴿ثُمَّ﴾ على بابها من المهلة لتباعد ما بين الموت والنشور، وكذا ما بين القبور والنشور.
وعن علي - رضي الله عنه -: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة إلى قوله: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)﴾؛ أي: سوف تعلمون في القبر ثم في القيامة.
٥ - ﴿كَلَّا﴾ تكرير للتنبيه تأكيدًا ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾؛ أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علمًا يقينًا لعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا.. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، من لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه، و ﴿كَلَّا﴾ في هذا الموضع الثالث للزجر والردع كالموضعين الأولين جيء بها للتأكيد، وقال الفراء: هي (١) بمعنى حقًا، وقيل: هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف كما قدرنا للتهويل، فإنه إذا حُذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن، و ﴿عِلْمَ﴾ مصدر أضيف إلى مفعوله، و ﴿الْيَقِينِ﴾: صفة لذلك المفعول، وهو المتيقَّن به؛ أي: لو تعلمون ما بين أيديكم من الأهوال علم الأمر المتيقن به كمال التيقن حتى كأنه عين اليقين.. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، لكنكم ضُلَّال جهلة، فاليقين بمعنى المتيقن به، وإلا فيلزم إضافة أحد المترادفين إلى الآخر؛ إذ العلم في اللغة بمعنى اليقين، ويمكن أن تكون الإضافة فيه من إضافة العام إلى الخاص بناء على أن اليقين أخص من العلم، فإن العلم قد يعم الظن واليقين، فتكون إضافته كإضافة بلد بغداد، ويدل قولهم: العلم اليقين بالوصف.
والمعنى: أي (٢) ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإن ما تدَّعونه علمًا ليس
(٢) المراغي.