قاله ابن عباس والضحاك: والتنكير في ﴿جُوعٍ﴾ (١) و ﴿خَوْفٍ﴾؛ لشدتهما يعني: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما وآمنهم من خوف عظيم، خوف أصحاب الفيل وخوف التخطف، كما مر آنفًا.
وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ خَوْفٍ﴾ بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع بإخفائهما، وكذلك مع العين نحو من علي، وهي لغة حكاها سيبويه.
وخلاصة معنى قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾؛ أي: فلتعبد (٢) قريش ربها شكرًا له أن جعلهم قومًا تَجْرًا ذوي أسفار في بلاد غير ذات زرع ولا ضرع، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتي من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام؛ لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها.
وقد كان العرب يحترمونهم في أسفارهم؛ لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة، فيذهبون امنين ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع، فكان احترام البيت ضربًا من القوة المعنوية التي تحتمي بها قريش في الأسفار، فلهذا ألفتها نفوسهم وتعلقت بالرحيل استدرارًا للرزق، وهذا الإجلال الذي ملك قلوب العرب ونفوسهم من البيت الحرام إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه، وقد حفظ حرمته، وزادها في نفوس العرب، رد الحبشة عنه حين أرادوا هدمه وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرًا بل قبل أن يدنوا منه، ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب، ونقصت حرمته عندهم، واستطالت الأيدي على سفارهم.. لنفروا من تلك الرحلات، فقلَّت وسائل الكسب بينهم؛ لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم، وهم في عقر ديارهم ليأخذوا منها، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق، وينقطع عنهم ينابيع الخيرات.
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾ الذي حماها من الحبشة وغيرهم، ومكن
(٢) المراغي.