يعقل، كأنه قيل: وبالقادر العظيم الشأن الذي بناها، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: والسماء وبنيانها، ورجح هذا القول الفراء والزجاج، ولا وجه لقول من قال: إن جعلها مصدرية مخل بالنظم، وكذا الكلام في ﴿ما﴾ في قوله: ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦)﴾، والمعنى؛ أي: وأقسمت (١) بالسماء ومن قدرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته، وفي ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة، وأن لها صانعًا حكيمًا، وقد أحكم وضعها وأجاد تقديرها، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة، كما تُربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع حتى يتماسك.
ولما كان الخطاب موجهًا إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينظروا في هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرًا، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى.. عبر عن نفسه بلفظ ﴿ما﴾ التي هي الغاية في الإبهام.
٦ - ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿الْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾؛ أي: ومن بسطها من كل جانب على الماء كي يعيش أهلها فيها ومهدها للسكنى، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان، وبما في باطنها من مختلف المعادن، ونحو الآية قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ والطحو كالدحو بمعنى البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين، وإفراد بعض (٢) المخلوقات بالذكر وعطف الخالق عليه والإقسام بهما ليس لاستوائهما في استحقاق التعظيم، بل النكتة في الترتيب أن يبين وجود الصانع العالم، وكمال قدرته، ويظفر العقل بإدراك جلال الله وعظمة شأنه حسبما أمكن، فإنه تعالى لما أقسم بالشمس التي هي أعظم المحسوسات شرفًا ونفعًا، ووصفها بأوصافها الأربعة وهي ضوءها، وكونها متبوعة للقمر، ومتجلية عند ارتفاع النهار، ومختفية متغطية بالليل.. أقسم بالسماء التي هي مسير الشمس وأعظم منها، فقد نبه على عظمة شأنها، لما عُلم أن الإقسام بالشيء تعظيم له، ومن المعلوم أنهما لحركاتهما الوضعية وتغير أحوالهما من الأجسام الممكنة المحتاجة إلى صانع مدبر كامل القدرة بالغ الحكمة، فيتوسل العقل بمعرفة أحوالهما وأوصافهما إلى كبرياء

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon