صانعهما، فكان الترتيب المذكور كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بقاع عالم الربوبية وبيداء كبريائه الصمدية.
وقصارى ما سلف (١): أنه تعالى بعد أن أقسم بالضياء والظلمة.. أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب وبالذي بناها وجعلها مصدرًا للضياء، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشًا، ومصدرًا للظلمة، فإنها هي التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر، فيظهر فيه الظلام.
قال المفسر الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)﴾ ولفظ (٢) السماء حين يُذكر يسبق إلى الذهن: هذا الذي نراه فوقنا، كالقبة حيثما اتجهنا تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها، فأما حقيقة السماء فلا ندريها، وهذا الذي نراه فوقنا متماسكًا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه، أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أو، ولا آخرًا، فذلك ما لا ندريه، وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل والإقرار لها والإثبات، إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله سبحانه هي تمسك هذا البناء ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وهذا هو العلم المتيقن الوحيد، اهـ. وقال الطنطاوي في "تفسيره" عند قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)﴾؛ أي (٣): ومن بناها، وأَيُّ بانٍ هو، إنه لا يضاهيه بَنَّاء فيما يعلم الناس، فأي بَنَّاء يستطيع أن يبني قبة زرقاء مرصعة بمصابيح، تلك المصابيح تجري وهي لا تتصادم إلا في أوقات نادرة، وإذا تصادمت.. أصلحت، وهي في نفس السقف، وعادت جديدة، ثم كيف يتسنى له جمع أجسام عظيمة في بنائه ما بين نارية، وأخرى صلبة، وأخرى لطيفة لطفًا أرق من الهواء، ومن الضياء وهو الأثير.
وكيف يراها الإنسان والحيوان سقفًا ساكنًا هادئًا لا حركة فيه، فالشمس ساكنة والقمر ساكن، والنجوم ساكنة لا حركة فيها، وترى هذه العوالم كلها في الليالي المظلمة كأنها تتغنى، وكأنها عروس حُلِّيَت في حِبَر، والكون كله سكون في سكون، مع أنه لا شيء مما يراه ساكن، فالهواء متحرك، والأثير متحرك،

(١) المراغي.
(٢) ظلال القرآن.
(٣) جواهر الطنطاوي.


الصفحة التالية
Icon