والمعنى: أقسمت بهذه الأمور العظام المذكورة على أنه قد فاز بكل مطلوب، ونجا من كل مكروه، من أنمى النفس وأعلاها بالتقوى؛ أي: رفعها وأظهرها وشهرها بها، فأهل الصلاح يظهرودن أنفسهم ويشهرونها بما سطع من أنوار تقواهم إلى الملأ الأعلى، وبملازمتهم مواضع الطاعات ومحافل الخيرات، بخلاف أهل الفسق، فإنهم يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، لا يلوح عليهم سيما سعادة يشتهرودن به بين عباد الله المقربين.
وأصل هذا: أن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع، ويوقدون النار للطارقين، لتكون أشهر، واللئام ينزلون الأطراف والهضاب؛ لتخفى أماكنهم عن الطالبين، فأخفوا أنفسهم، فالبار أيضًا أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دسها، وتُستعمل التزكية بمعنى التطهير أيضًا، كما قال في "القاموس": الزكاة: صفوة الشيء، وما أخرجته من مالك؛ لتطهره به، فالمعنى عليه: قد أفلح من طهر نفسه من المخالفات الشرعية عقدًا وخلقًا وعملًا وقولًا، فقد أقسم تعالى بسبعة أشياء على فلاح من زكى نفسه ترغيبًا في تزكيتها.
وكون أفعال العبد بتقدير الله تعالى (١)، وخلقه لا ينافي إسناد الفعل إلى العبد، فإنه يقال: ضرب زيد عمرًا، ولا يقال: ضرب الله عمرًا، مع أن الضرب بخلقه، وتقديره، وذلك لأن وضع الفعل بالنسبة إلى الكاسب، قال الراغب: وزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد؛ لاكتسابه ذلك نحو: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾، وتارة إلى الله؛ لكونه فاعلًا خالقًا لذلك في الحقيقة نحو: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ وتارة إلى الشيء؛ لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، وتارة إلى العبادة التي هي آلة في ذلك نحو: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً﴾ انتهى.
١٠ - وقوله: ﴿وَقَدْ خَابَ﴾ وخسر معطوف على ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ ﴿مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ أي: أضلها وأغواها، قال أهل اللغة: دساها أصله: دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى ﴿دَسَّاهَا﴾ في الآية: أخفاها وأخملها، ولم يشهرها