ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥)﴾ يعني: النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل: ﴿الْخَنَّاسِ﴾ اسم إبليس، كما تقدم في الوسواس، فالخناس هو الذي إذا ذكر العبد ربه تأخر واختفى وتوارى عنه، وإذا غفل عن ذكر الله بالقلب، ولو كان ذاكرًا باللسان رجع إليه، فالذكر له كالقامع الذي يقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلًا، وعن بعض السلف: إن المؤمن يفني شيطانه، كما يفني الرجل بعيره في السفر، قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وقيل: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وتأخر، وإذا غفل رجع، وهل المراد بما ذُكر الحقيقة؟ أو خرطوم الكلب والخنزير كناية عن قبحه وخبثه ونجاسته، ورأس الحية كناية عن شدة الأذية، ووضعه على الفؤاد كناية عن شدة التمكن؟ كل محتمل.
ويجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام؛ لأنه جسم لطيف، وهو وإن كان مخلوقًا في الأصل من نار، لكنه ليس بمحرق؛ لأنه لما امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجًا مخصوصًا كتركيب الإنسان، كما ورد في الحديث الصحيح أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والمعنى: أي (١) ألجأ إليك رب الخلق ومالكهم وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء؛ لإنه يأتي من ناحية الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوأ مصير إذا انجرَّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال.
وهذه الأحاديث النفسية إذا سُلِّط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، وسكن الموسوس عند إلقائها، وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ، وبعثك على فعل السوء،
٥ - ثم ذكرته بأوامر الدين يخنس، ويمسك عن القول إلى أن تسنح له فرصة أخرى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الوسواس الخناس بقوله: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ﴾ ويحدث حديثًا خفيًا لا يُسمع له صوت ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾؛ أي: في

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon