جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك، وعصوك في هذه الواقعة، وذلك برحمة الله إياهم. وقيل: متعلق الرحمة المخاطب - ﷺ -؛ أي: برحمة الله إياك، جعلك لين الجانب، موطأ الأكناف، فرحمتهم، ولنت لهم، ولم تؤاخذهم بالعصيان، والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتنانًا على رسول الله - ﷺ -.
والخلاصة: أنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية؛ إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمروا للهزيمة، والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم، وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصك بها؛ إذ أمدَّك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية حتى هانت عليك المصائب، وعلمتك ما لها من المنافع، وحسن العواقب، وقد مدح الله نبيَّه - ﷺ - بحسن الخلق في مواضع من كتابه، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ وقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾، وقال - ﷺ -: "لا حِلْمَ أحبَّ إلى الله تعالى من حِلْمِ إمامٍ ورِفْقهِ، ولا جَهْلَ أَبْغَضَ إلى الله من جَهْلِ إمامٍ وخُرْقِهِ".
﴿وَلَوْ كُنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿فَظًّا﴾؛ أي: سيىء اللِّسان بذيّه ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾، أي: جافيه، وقاسيه ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؛ أي: ولو لم تكن كذلك، وكنت فظًّا غليظًا ﴿لَانْفَضُّوا﴾؛ أي: لتفرقوا من عندك، ونفروا عنك، ولم يسكنوا إليك حتى لا يبقى أحدٌ منهم عندك، ولا يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، إذا انفضوا من عندك. وذاك أنَّ المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلّا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريمًا، يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر، والمكرمة، والشفقة.
﴿فَاعْفُ﴾ يا محمَّد ﴿عَنْهُمْ﴾ وسامح لهم ما وقع منهم يوم أحد فيما يختصُّ بك، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾؛ أي: واطلب المغفرة لهم من الله سبحانه وتعالى فيما يختص بحقوق الله تعالى إتمامًا للشفقة عليهم، وإكمالًا للبر لهم، ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ يا


الصفحة التالية
Icon