﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾؛ أي: والذي أوجد وأنشأ الظلمات والنور الحسيين والمعنويين، كظلمة الليل ونور النهار وظلمة الكفر ونور الإيمان. واختلف (١) العلماء في المراد منهما: فمن قائل: إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار، وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وفي ذلك ردٌّ على المجوس - الثنوية - الذين زعموا أن للعالم ربين، أحدهما: النور، وهو الخالق للخير، والثاني: الظلمة، وهو الخالق للشر. ومن قائل: إن المراد منهما الكفر والإيمان، وروي هذا عن ابن عباس.
والفرق (٢) بين الخلق والجعل: أن كلًّا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام له، كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضًا كما في قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ الآية. وإنما جمع الظلمات دون النور؛ لكثرة محالها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحاسة البصر وإن حمل النور على الإِسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق.. فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير. وفي "البيضاوي" (٣): وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، وفي "شيخ الإِسلام " قوله: لكثرة أسبابها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور، فإنه من جنس واحد وهو النار، ولا ترد الأجرام النيرة كالكواكب؛ لأن مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إن الكواكب أجرام نورية نارية، وإن الشهب تنفصل من نار الكواكب، فصح أن النور من جنس النار. اهـ.
وإنما قدم الظلمات على النور؛ لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها. ﴿ثُمَّ﴾ بعد قيام هذه الأدلة {الَّذِينَ

(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الفتوحات.


الصفحة التالية
Icon