قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ والمعنى: ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرًا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم.
ثم ذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم، وخصب تربتها، فقال: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ﴾؛ أي: أنزلنا المطر ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أولئك القرون حالة كونه ﴿مِدْرَارًا﴾؛ أي: كثيرًا متتابعًا كلما احتاجوا إليه، وهذه الجملة والتي بعدها معطوفتان على جملة ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾ كما مرَّ؛ أي: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون الموصوفين بكونهم مكناهم في الأرض، وبكونهم أرسلنا السماء عليهم مدرارًا ﴿و﴾ بكونهم ﴿جَعَلْنَا الْأَنْهَارَ﴾ والمياه ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾؛ أي: تسيل من تحت بساتينهم وزروعهم فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: فأهلكنا أولئك القرون ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: بتكذيبهم الأنبياء، وبكونهم باعوا الدين بالدنيا؛ أي: أهلكنا (١) كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب، فما أغنت عنهم تلك العدد والأسياب، فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب.
والخلاصة: أن من مضى من قبلكم من الأمم أعطيناهم القوة الشديدة في الجسم، والسعة في الأموال والأولاد، ومع ذلك فلم ينفعهم من ذلك شيء، فلا تأمنوا سطوتي بالأولى منهم، قال الشاعر:

لاَ يَأمَنُ الدَّهْرَ ذُو بَغْيٍ وَلَوْ مَلِكَا جُنُوْدُهُ ضَاقَ عَنْهُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ
وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار.
وأما قوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن ﴿قَرْنًا آخَرِينَ﴾؛ أي: قومًا آخرين بدلًا من الهالكين يعمرون البلاد، ويكونون أجدر
(١) الفتوحات.


الصفحة التالية
Icon