بشكران النعمة، فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه، وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة، فلم ينقص من ملكه شيئًا، بل كلما أهلك أمة.. أنشأ بدلها أخرى، فإنه تعالى يهلك من يشاء، ويوجد من يشاء. وإنما قال هنا: قرنًا بالإفراد، وفي موضع آخر قرونًا بالجمع، للتفنن؛ لأن المعنى واحد؛ لأنه أفرد هنا نظرًا للجنس، وجمع في موضع آخر نظرًا للمعنى. اهـ "أبو السعود".
وفي هذه (١) الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية، فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة الرزق وكثرة الأتباع.. أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا، فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددًا وعددًا؟ وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فكأنه قال: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه، ذكره الحافظ ابن كثير.
والذنوب (٢) التي تدعو إلى الهلاك ضربان:
١ - معاندة الرسل والاستكبار، والعتو والتكذيب.
٢ - كفران النعم بالبطر وغمط الحق، وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، كما جاء في قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٥٨) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩)﴾. وفي هذه الآية ردٌّ على كفار مكة، وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي - ﷺ - وفقرهم، كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم في صفاتهم، وإن كانوا من أبناء جنسهم، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير كبير في النفوس تخفف من غلواء الناس، وتقلل من
(٢) المراغي.