معاصيكم، أو المعنى: ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة؛ لأن الجمع إنما يكون إلى المكان لا إلى الزمان.
والحاصل: أن الله (١) الذي تقرون معنى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه؛ إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه للحساب والجزاء على الأعمال، إذ إنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفوس إلا به، فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن خوفًا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.
ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل.. كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنه، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه، وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾.
وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضًا، فما مثله إلا مثل الحكومة العادلة تبيِّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة، وما تكافىء به من يصدق في خدمتها ويرقى إلى سماء العزة والكرامة. وقد سبق حديث الشيخين وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله لما خلق الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" والمراد بالسبق هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا فيه.
والخلاصة: أنه لما قال: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ذلك أنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد في الأرض، واختلت نظم الاجتماع، وأكل القوي

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon