لِلْعُسْرَى *وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}: هذا الصِّنْفُ الثاني من أهلِ السَّعْيِ، وهم من لم يُنْفِقْ مالَه في سبيلِ الله، بل قَبَضَهُ وبَخِلَ به، واستغنى بنفسِه ومالِه عن ربِّه وعبادتِه (١)، ولم يُصدِّق بموعود الله من الخلف مِنَ الله، ولا بالجنَّةِ (٢)، فهذا يسهِّلُ الله له عملَ الشرِّ والوقوعَ فيه، جزاءً له على استغنائه عن ربِّه، وعدمِ إنفاقِ مالِه في الخيرِ، وتكذيبِه بالحُسْنَى (٣)، فمن كانَ من هذا الصِّنْفِ، فإنَّ مالَهُ الذي بَخِلَ به، ولم ينفِقْهُ في سبيلِ الله، لن يفيدَهُ إذا سَقَطَ وهوَى في جهنم (٤).
١٢ - ١٣ - قولُه تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى﴾؛ أي:
_________
(١) قال قتادة من طريق سعيد: «وأما من بَخِلَ بحقِّ الله عليه، واستغنى بنفسِه عن ربِّه»، ووردَ عن ابن عباس من طريق العوفي: «من أغناه الله، فبخِلَ بالزكاة»، وهذا يعني أن الآية يدخلُ فيها مانع الزكاة من المسلمين، وهذا منَ التفسيرِ القياسي؛ أي: يقاسُ على هذا الفعل الذي هو من فعلِ الكفَّار كلُّ من فعلَه، وإن كان من المسلمين، والله أعلم.
(٢) وردَ عَن السلف الخِلاف السابق في: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾.
(٣) وردَ في هذه الآيات حديثٌ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال علي بن أبي طالب: «كُنَّا في جنازةٍ في بقيعِ الغَرْقَدِ، فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حولَه، ومعه مِخْصَرَة، فنكَسَ، فجعل ينكثُ بمِخْصَرَتِه، ثم قال: ما منكم من أحدٍ، وما من نفسٍ منفوسة، إلا كُتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبَ شقية أو سعيدة، قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكلُ على كتابنا وندعُ العمل، فمن كان منَّا من أهلِ السعادةِ فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منَّا من أهلِ الشقاوةِ، فسيصيرُ إلى عمل أهلَّ الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة، فَيُيَسَّرونَ لعملِ أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسَّرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ الآية» (رواه البخاري في تفسير سورة الليل من صحيحه).
(٤) ورد ذلك عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة من طريق معمر وورد عن مجاهد من طريق ليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح: «إذا مات».
قال الطبري: «وأَوْلى القولينِ في ذلك بالصوابِ، قول من قال: معناه: إذا تردَّى في جهنم؛ لأن ذلك هو المعروفُ من التردِّي، أما إذا أريدَ معنى الموتِ، فإنه يقال: رَدِيَ فلان، قلَّما يقال: تردَّى». وهذا يعني أن تفسيرَ أبي صالحٍ وقتادة على المشهور من معنى اللفظ، أما تفسير مجاهد فهو على معنى قليلٍ في اللفظ، وهو معنًى صحيح، ولكن قدَّم الأول لأنه المعنى الأشهر، والله أعلم.