والمطلع على تاريخ الحياة الفكرية في الأندلس يرى أن الفقهاء لم يعترضوا ولم ينتقدوا على حياة الزهد والتبتل التي كان يحياها بعض عباد وزهاد الأندلس في القرنين الأولين، بل -كما قلت- كان هؤلاء موضع احترام وتبجيل من الجميع، أما في أواخر القرن الثالث وبداية الرابع فقد ظهر من تصرفات هؤلاء العباد!! -بعد تأثرهم بالأفكار الباطنية والمسيحية (١) - ما أشار الفقهاء عليهم (٢).
وننتقل الآن إلى أقدم شخصية أندلسية صوفية فلسفية ظهرت خلال أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري وكان لها أثر كبير بعد ذلك في الحياة الروحية بهذه البلاد حتى ابن العربي الصوفي ومن والاه، ونعني بها شخصية ابن مسرة الجبلي (٣) (محمد بن عبد الله + ٢٦٩ - ٣١٨)، الذي
(١) عثرت في كتاب "الصلة" لابن بشكوال: ١/ ١٩٠ - ٢٠٠، رقم الترجمة: ٤٥٠ على نص مهم جداً يمكن أن يساعد الباحث في معرفة العوامل المؤثرة على مسيرة الفكر الإِسلامي في الأندلس وهو على بساطته يحمل دلائل خطيرة جداً، فسليمان بن إبراهيم القيسي من أهل طليطلة، كان رجلاً صالحاً زاهداً عالماً بأمور دينه تالياً للقرآن مشاركاً في التفسير والحديث ورعاً، فرق جميع ماله وانقطع إلى الله ولزم الثغور للجهاد في سبيل الله ضد النصارى، توفي مرابطاً بحصن غرماج، وذكر أن النصارى يقصدونه ويتبركون بقبره رحمه الله.
قلت: فكيف يعقل أن يقصد النصارى قبر هذا المسلم الذي أوقف حياته على محاربة النصارى؟! الحقيقة أن هؤلاء الكفرة أرادوا أن يفسدوا على المسلمين دينهم، فبذروا فيهم بذرة السوء، وهي التبرك بقبور الأموات والاستغاثة بهم، وإنني أشك في صدق النصارى في الإيمان ببركة صاحب القبر على فرض أن له بركة، وإنما هو كيد أو مصيدة تَمَّ تدبيرها من طرف القساوسة ورهبان المسيحية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(٢) أول من يمثل لنا هذا الاصطدام بين الفقهاء والصوفية هو أبو بكر يمن بن رزق الزاهد الذي ألف كتاباً سماه "الزهد" فقد أشار هذا الكتاب حفيظة الفقهاء الملتزمين بالكتاب والسنة فمنعوا المسلمين من النظر فيه لأن مؤلفه صاحب وساوس (انظر ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: ٢/ ٢٠٠، رقم الترجمة: ١٦١٣)، وكذلك عطية بن سعيد الأندلسي العالم الزاهد الذي له كتاب في تجويز السماع فكان كثير من المغاربة يتحامونه من أجل ذلك (انظر: الحميدي: جذوة المقتبس: ٣١٩، الترجمة رقم: ٧٤١، ابن بشكوال: الصلة: ٢/ ٤٤٧، الترجمة رقم: ٤٤٨.
(٣) انظر ترجمته: الحميدي: الجذوة: ٥٨، ابن خاقان: مطمح الأنفس: ٢٨٦ (ط: الرسالة)، الضبي: بغية الملتمس: ٨٨، النُّبَاهي: تاريخ قضاة الأندلس: ٧٨.
قلت: فكيف يعقل أن يقصد النصارى قبر هذا المسلم الذي أوقف حياته على محاربة النصارى؟! الحقيقة أن هؤلاء الكفرة أرادوا أن يفسدوا على المسلمين دينهم، فبذروا فيهم بذرة السوء، وهي التبرك بقبور الأموات والاستغاثة بهم، وإنني أشك في صدق النصارى في الإيمان ببركة صاحب القبر على فرض أن له بركة، وإنما هو كيد أو مصيدة تَمَّ تدبيرها من طرف القساوسة ورهبان المسيحية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(٢) أول من يمثل لنا هذا الاصطدام بين الفقهاء والصوفية هو أبو بكر يمن بن رزق الزاهد الذي ألف كتاباً سماه "الزهد" فقد أشار هذا الكتاب حفيظة الفقهاء الملتزمين بالكتاب والسنة فمنعوا المسلمين من النظر فيه لأن مؤلفه صاحب وساوس (انظر ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: ٢/ ٢٠٠، رقم الترجمة: ١٦١٣)، وكذلك عطية بن سعيد الأندلسي العالم الزاهد الذي له كتاب في تجويز السماع فكان كثير من المغاربة يتحامونه من أجل ذلك (انظر: الحميدي: جذوة المقتبس: ٣١٩، الترجمة رقم: ٧٤١، ابن بشكوال: الصلة: ٢/ ٤٤٧، الترجمة رقم: ٤٤٨.
(٣) انظر ترجمته: الحميدي: الجذوة: ٥٨، ابن خاقان: مطمح الأنفس: ٢٨٦ (ط: الرسالة)، الضبي: بغية الملتمس: ٨٨، النُّبَاهي: تاريخ قضاة الأندلس: ٧٨.