بعد ذلك في أنها عرض لوجود أو جوهر؟ فهذا موضع الِإشكال، ومحل الاجتهاد، وسبيل العذر في ذلك ممهد لمن اضطرب فيه قوله، واختلف عليه رأيه، والأقوى أنها عرض لا جوهر، وصفة غيرُ مَوْصُوف، فإن التحامل على الألفاظ في تأويلها وصرفها من الحقيقة إلى المجاز، أقرب في النظر من الاضطراب فيكم، الأدلة العقلية التي توجب أنها لا تقوم بنفسها حسب ما سطرناه في كتب "الأصول" من كلامنا ونقلناه منتحلاً عن علمائنا (١)، وهو قانون عظيم، فتمسكوا به في الأغراض العلمية، وصرّفوه في الِإبرام والانتقاض عند التصرف في وجوه التأويل.
ذكر الاعتذار عن عدول العلماء عن الكتاب إلى أدلة العقول
فإن قيل فما عذر علمائكم في الِإفراط بالتعلق بأدلة العقول دون الشرع المنقول في معرفة الرب، واستوغلوا في ذلك (٢)؟.
قلنا: لم يكن هذا لأنه خفي عليهم، إن كتاب الله مفتاح المعارف، ومعدن الأدلة، لقد علموا أنه ليس إلى غيره سبيل، ولا بعده دليل، ولا وراءه للمعرفة معرس ولا مقيل، وإنما أرادوا وجهين:
(٢) قال المؤلف حول هذا الموضوع في سراج المريدين: ٥٢/ ب ما يأتي: "... نشأت المبتدعة من القدرية وأترابهم، فتكلموا بألفاظ الأوائل من عرض وجوهر وحامل ومحمول، وخاضوا في أن العرض يتعدد، وأن الجوهر الفرد لا يتعدد، وركبوا عليه أدلة التوحيد، وهذا وإن كان يفضي إلى تحقيق، ولكنه خروج عن سيرة السلف، ويصلح للغلبة في الجدال، وإلاّ فقد أغنى الله في كتابه بما وضع من أدلته، "وَلَيْس مِنا مَنْ لمْ يَتَغَن بِالقُرْآنِ". ولو لم يمكنوا أنفسهم من هذه الألفاظ معهم ولا انقادوا في تَرْدَادِهَا في النظر إليهم، لكانوا قد سدّوا من البدعة باباً، وطمسوا وجهاً، فإن المداخلة لهم، فيها إطالة النفس، وما حلت عقدة الحبس".