بلى: إن علماءنا -رحمة الله عليهم- قالوا: "ليس يمكن بالعقول إدراك كل معقول". بيد أن الباري سبحانه وتعالى يصطفي من عباده من يطلعه على العلوم (١)، فيصل إلى الخلق بواسطة، وذلك المصطفى منه يكون التعليم، وعنه يؤخذ القانون، وعليه يكون التعويل، وبه يتوصل إلى الدليل، ووحي الله هو تبيان لكل شيء، وهدى لكل مشكل، إلا أن المرء لا تمكنه الِإحاطةُ بجميع العلوم، فإن العمر الطويل لا يتسع لها، فكيف أعمارنا القاصرة، وهذه الدار لم تخلق له، والآدمي لم يُعَدَّ لها كما هو عليه، وإنما الممكن الاطلاعُ على جمل العلوم، والإشراف على مقاصدها دون درك التفاصيل، فإذا وصل إلى هذه المرتبة، وقف عندها، وعطف على المقصود الأوفى، وتعرض للمطلوب الأعلى، ولو أن عبداً تجرد لعلم واحد ليدرك تفاصيله، ويضاعف له عمره ما أحاط به.
بلى: إنه إذا بلغ مرتبة الِإشراف يجد من نفسه مُنَّةَّ على درك التفاصيل، حتى إذا تعرض لذلك نالها بالقانون، فإذا وَصَلْتَ هذه المرتبة، فاجْتَهِد لنفسك أن تكون من العاملين، فإن لم تقدر فمن المبلِّغين فكلاهما في نضرة ونعيم. قال النبي - ﷺ -: نضَر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هوَ أفْقَهُ مِنْهُ، وَرب حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيهٍ (٢).
ذكر أقسام العلوم
وإذا كانت العلوم مطلوبة للتوصل إلى العلم الأقصى، وهو معرفة الله
(٢) هذا الحديث صحيح متواتر رُوي في معظم كتب السنة المعتمدة بألفاظ متقاربة، وهو في الترمذي كتاب العلم رقم: ٢٦٥٨، وأبو داود في العلم رقم: ٣٦٦٠، وابن ماجه في المقدمة رقم: ٢٥٠ (ط: الأعظمي) وألف حول هذا الحديث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري كتاباً سماه "المسلك التبتي بتواتر حديث نضر الله امرءاً سمع مقالتي".