منها قولهم "إن الله لما خلق آدم قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] (١) ولم يقل: إني خالق عرشاً ولا سماء ولا أرضاً ولا جنّة ولا ناراً ولا شجراً ولا حيواناً، حتى خلق آدم، وقال لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ فما الحكمة فيه؟ ".
ثم اختلفت مدارك خواطرهم في بيان ما تكلفوا سؤاله، فَرَكَّبَ كل واحد منهم على ذلك فناً من فنون المقاصد عظيماً، وولجوا مفازة لا تقطعها المهارى ولا يزال الفكر فيها حيارى، حتى أدخلها المتأخرون في كل آية وحرف، وغادروا في سبيلها رَذِيَّة كُل جَلَدِيَّةٍ وَحَرْفٍ (٢)، ولم أزل أطلب هذا الفن في مظانه، وفي مراجعة شيوخه حتى وقفت على حقيقة مذهبه.
ولقد سألني بعض أصحابه من السالكين عن قول صاحب الحقائق (٣): ما الحكمة في قول الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ

(١) انظر تفسير هذه الآية في معرفة قانون الأسكريال: ٣٨/ ب، ٣٩/ أ- ب، ولم يتعرض لهذا الإشكال الذي طرحته الصوفية بالرغم من تعرضه لتفسيرها بطريق الإشارة. أما القشيري في الإشارات: ١/ ٨٦ - ٨٧ فقد تطرَّق لهذا الإشكال وأبان الحكمة فيه فقال: "وإنما قال الله تعالى إنِّي جَاعِل، تشريفاً وتخصيصاً لآدم".
(٢) الرذية الناقة المهزولة من السير، والجلدية هي الكبار من النوق التي لا أولاد لها ولا ألبان، أما الحرف فهي الناقة الضامرة المهزولة، ومراد المؤلف هنا الإشارة إلى مشاق السفر الذي يتحملونه في طلب معرفة ذلك، والله أعلم.
(٣) هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلَمِي (ت: ٤١٢) من كبار المتصوفة له تآليف عديدة في التصوف والتفسير والحديث، وكتاب "الحقائق" الذي أشار إليه ابن العربي هو تفسيره الصوفي للقرآن الكريم والمسمى بـ "حقائق التفسير" وتوجد منه عدة نسخ مخطوطة في مختلف مكتبات العالم وللوقوف على أماكنها انظر: تاريخ التراث لسزكين ٢/ ٤٦٨ - ٤٩٩، ولم أتمكن من مراجعة نص السلمي في المخطوطات الأصلية، وإنما وقفت على مقتطفات نشرها القس بولس نويا اليَسُوعِي -هداه الله إلى الإِسلام- في كتاب تحت عنوان "نصوص صوفية غير منشورة" دار المشرق ببيروت صفحة: ٥٨، وللتوسع في ترجمة أبي عبد الرحمن السل


الصفحة التالية
Icon