...........................

= أن يمثل ذلك بالبركة كطعام أم سليم ولا بأنه ينمو كما ينمو، ويجتني منه ما يقوت، فكل ذلك مقايسة لطعام الجنة بطعام الدنيا، ولا مناسبة بين فواكه الجنة وفواكه الدنيا في هذه المعاني، بل ينبغي أن يعلم أن فواكه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأن قطوفها دانية، وليس المعنى بقطعها أن تقطع بعينها، وتوصل إلى المعدة بالنقلة، بل تلك الفواكه تبقى ولا تنقص، ولا يتعرض لذواتها، وإنما ذواتها أسباب لحدوث أمثالها في ذات الإنسان، فيكون غذاء الأرواح في الجنة بما يحدث فيها من أمثال تلك الفواكه، ولا يفهم هذا إلاَّ بمثال، فلنمثل هذا في المعرفة فإنها غذاء القلب، ومعلوم أن وجودها في قلب المعلم سبب لوجودها في قلب المتعلم، وليس ذلك سبباً لانتقالها أو نقصانها بل يحدث عن تلك المعرفة في قلب المتعلم آلاف ولا ينقص منها شيء، ومثاله أيضاً الصورة التي تحدث في المرآة من الصورة المقابلة لها، فلو قابلت الصورة الواحدة ألف مرآة لحدث فيها ألف صورة من غير أن تنتقل الصورة وتنتقص، ولو تصور أن يكون للمرآة لذة بما يحدث فيها من أثر الفواكه، لقيل أنها تغذت وتنعمت وتفكهت، بل لو جعل غير المعرفة غذاء للقلب، ولذيذاً عنده لذة دائمة، من أسباب يستعار لها اسم الفواكه، وهي غير مقطوعة ولا ممنوعة، فقد ظن ظانون أن المعرفة هي عين الفواكه في الجنة، وأن الفواكه كناية عن المعارف التي تقوم مقام الفواكه في اللذة ولكن تلك اللذة تدرك بعد الموت، وأن اتساع صدره بالمعارف هو اتساع جنته وأن جنة كل إنسان بقدر سعة معرفته بالله تعالى وجل بجلاله وحكمته وأفضاله، ولذلك لا يضيق البعض من أهل الجنة عن البعض.
وأما أهل الحق فإنهم جعلوا هذه المعارف سبباً لاستحقاق الجنة، لا عين الجنة، وعلى كل مذهب؛ ففواكه الجنة لا تعين بالطريق التي ذكرتها، وهذا التحقيق إذا كان لا تحتمله عقول الخلق وأفهامهم القاصرة، فينبغي ألاّ يتعرض له، فإنهم لما ألفوا في الدنيا أن الشيء لا يحصل في نفوسهم إلاَّ بالانتقال، لم يفهموا أمور الجنة إلّا كذلك، لا أن الشيء عندهم هو الأجسام، وذهلوا عن مثال المعرفة والمرآة كما ذكرت، وأما امتناع رسول الله - ﷺ - من أخذه، وامتناع فواكه الجنة في الدنيا، فكامتناع صورة المرآة في الجهة بدلًا عن العين وذلك غير ممكن، لأن الصفة التي تتهيا بها الحدقة لقبول صور المرئيات لا توجد في الجهة، فكذلك الصفة التي بها يحصل إدراك عالم الآخرة غير حاصلة في النفس قبل الموت، وإن كانت حاصلة فهي محجوبة بالأجفان المغمضة بعضها ببعض، فإنه لا يتصور أن تقبل صور المرئيات ما لم يرتفع الحجاب وهذه الشهوات، وأما النفس في هذا العالم فهي حجاب عن إدراك عالم الآخرة وما فيها، وقد ينقشع هذا الحجاب على الندور بهبوب رياح العطف لمن تعرض لنفحات الرحمة بتصفية باطنه وقطع هَمِّهِ عن الدنيا، وإقباله على الله تعالى بكنه همّته، فيكون ذلك الانقشاع في لحظة كالبرق الخاطف، ثم يعود ولكن يظهر في تلك اللحظة ما ظهر لرسول الله - ﷺ - في عرض الحائط، ومن انقشع عن هذا الحجاب فهو الذي سمي نبياً أو ولياً وقوله عليه السلام: "لَوْ أخَذْتُهُ لأكَلْتمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا" معناه أنه في نفسه مِمَّا لا يفنى، وليس الأكل منه بطريق نقلة وإفناء، بل بطريق أنه فياض بأمثاله على الأرواح فيضاً لا ينقطع، فلو انتقل إلى الدنيا لبقي على حاله، ولكن انتقاله غير ممكن". المعيار: ١١/ ٢٥ - ٢٧.


الصفحة التالية
Icon